مع الكليم موسى عليه السلام
تمتلئ قصص الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام بالحكم والفوائد والعبر، كما قال تعالى: (( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ )) [يوسف: 111].
ولعل أوْلى الناس بالاعتبار هم تلك الصفوة من عباد الله عز وجل التي ذاقت طعم الإيمان وحلاوته، واستشعروا ثقل الأمانة، فانطلقوا في الناس يرشدون وينصحون على الرغم مما قد يعترضهم من مضايقة أو بلاء.
تلك الصفوة التي ورثت أمانة الدعوة ووظيفة التبليغ من أولئك الأنبياء الكرام عليهم السلام وهم القدوة الذين نجد في قصصهم كثيراً من الزاد على هذا الطريق.
وسأقتصر في هذه الخواطر على عنصر من أهم عناصر ذلك الزاد، ألا وهو الدعاء.
وقد روى ابن ماجه في كتاب الدعاء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الدعاء هو العبادة).
ثم قرأ: (( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ )) [ غافر: 60] كما أن الحديث سيتركز في هذه المقالة على قصة موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام من خلال سورة القصص.
وتتميز قصة هذا النبي الكريم بكونها غنية بالأحداث وتنوعها ؛ ولذلك فقد أخذت حيزاً كبيراً في كتاب الله عز وجل، وذكرت في عدة سور وبعدة أساليب ؛ تبعاً لأغراض القرآن في سوره وآياته ومقاطعه.
فقد واجه أطغى الخلق فرعونَ وملأه، ثم تولى قيادة اليهود أمة تعد من أشد الأمم تفلتاً، وأقساها قلوباً، وإزاء هاتين المهمتين عاش موسى عليه السلام منذ ولادته حياة حافلة بالبلاء والابتلاء.
أ - ألقي في اليم وهو رضيع ! ! ب - وقع في يد فرعون مباشرة وهو في أوج حملته على بني إسرائيل.
قال الراغب في مفرداته: [ (( يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ )) [القصص: 4] على التكثير، أي: يذبح بعضهم إثر بعض ].
ج - ولما بلغ أشده وقع له ذلك الحدث المفاجئ حيث قتل أحدَ جنود فرعون، فخرج من المدينة بعيداً عن فرعون وملئه في هجرة شاقة مضنية.
د - ثم كُلِّفَ بعد فترة من الزمن بالرجوع إلى عدوه فرعون ومواجهة السحرة في جمع لم يسبق له مثيل، وقد حكى الله عز وجل على لسانهم: (( فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفاً )) [طه: 64].
هـ- وبعد الانتصار عليهم ونجاته مع بني إسرائيل من فرعون يدخل موسى عليه السلام في مرحلة تميزت بالمتاعب التي لا تنتهي في توجيه بني إسرائيل وسياستهم وتربيتهم وتقويمهم.
موقع الدعاء في منهج موسى عليه السلام: يلحظ المتدبر لهذه القصة في القرآن الكريم أن الدعاء يمثل عنصراً بارزاً في حياة موسى عليه السلام، وذا أثر واضح في سيرورة رسالته وتوالي أحداثها وبناء بعضها على بعض.
وكون الدعاء أحد المعاني الكبرى في القصة فإن ذلك يدل على أنه مكون أساسي من مكونات منهج الرسالة والدعوة والتبليغ عنده عليه السلام، ويكشف في الوقت نفسه عن جانب مهم في شخصيته الموصولة بالله عز وجل، وعلى العناية الربانية التي رافقته وقادته إلى النصر والنجاة.
كما أن المتدبر لمجموع نصوص الدعوات التي دعا بها موسى عليه السلام يجد نفسه أمام فقه عظيم وعلم نفيس.
وسأحاول أن نعيش في ظلالهما بما يسر الله عز وجل بمنه وكرمه.
وسيكون تناولي لمجموع هذه الدعوات مراعياً للترتيب الزمني حسب الأحداث وتواليها.
ويمكن تقسيم القصة إلى ثلاث مراحل كبرى حافلة بالأحداث والقضايا والأحوال: المرحلة الأولى: وتشمل ما بين لحظة الميلاد وزمان التكليم والتكليف.
المرحلة الثانية: وتشمل ما بين التوجه إلى مصر لمواجهة فرعون ولحظة إهلاكه، ونجاة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل.
المرحلة الثالثة: وتشمل ما بعد النجاة، حيث قيادة بني إسرائيل وتوجيههم وسياستهم.
أما المرحلة الأولى: فقد شخّصها ابن عباس رضي الله عنهما بقوله حين سأله سعيد بن جبير عن قوله تعالى مخاطباً موسى عليه السلام: ((... وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً...)) [طه: 40]، قال: خلصناك محنة بعد محنة: ولد في عام كان يقتل فيه الولدان فهذه فتنة يا ابن جبير، وألقته أمه في البحر، وهمّ فرعون بقتله، وقتل قبطياً، وأجر نفسه عشر سنين، وضل الطريق، وتفوقت غنمه في ليلة مظلمة، وكان يقول عند كل واحدة: فهذه فتنة يا ابن جبير) [1]، وهذه المرحلة وما يتعلق بها من دعاء ذكرت في سورة القصص بشكل مفصل وواضح.
سياق الأدعية التي دعا بها موسى عليه السلام في سورة القصص: يلاحظ أن موسى عليه السلام دعا بثلاثة أدعية قبيل خروجه من المدينة إلى حين وصوله إلى أهل مدين، وقد جاءت إثر ثلاثة أحوال: الدعاء الأول: قوله: (( رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لي )) [القصص: 16]، وقد جاء هذا الدعاء إثر قتله للقبطي: (( وَدَخَلَ المَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ )) [القصص: 15].
الدعاء الثاني: (( رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ )) [القصص: 21]، وقد كان إثر بلوغه خبر المؤامرة على قتله: (( وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إنَّ المَلأَ يَاًتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ )) [القصص: 20].
الدعاء الثالث: قوله: (( رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ )) [القصص: 24]، وقد جاء إثر الحالة التي آل إليها من التعب والجوع.
قال ابن عطية: (تعرض لسؤال ما يطعمه بقوله: (( رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ))، ولم يصرح بسؤال.
هكذا روى جميع المفسرين أنه طلب في هذا الكلام ما يأكله.
قال ابن عباس: وكان قد بلغ به الجوع واخضرّ لونه من أكل البقل، وضعُف حتى لصق بطنه بظهره ورئيت خضرة البقل في بطنه، وإنه لأكرم الخلق يومئذ على الله.
وروي أنه لم يصل إلى مدين حتى سقط باطن قدمه.
وفي هذا معتبر وحاكم بهوان الدنيا على الله تعالى ) [2].
من فقه الألفاظ في دعاء موسى عليه السلام: يلاحظ أن موسى عليه السلام قد قدم بين يدي موضوع طلبه وحاجته بقوله: (ربِّ): (( رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لي ))، (( رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ ))، (( رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ )).
وهذا التقديم يشير إلى الإيمان الكامل والتوحيد الصافي والتوجه الصادق والتجرد المطلق من القوة والحوْل ؛ فالله عز وجل هو الرب الواحد الذي له الأسماء الحسنى، ومنها الغفور والغفار الذي منه المغفرة، والمنجي الذي به النجاة، والرازق والرّزّاق الذي بيده الرزق، وهي أسماء دالة على صفات لا يتصف بها على التمام والكمال إلا الله عز وجل.
ولا نتصور موسى عليه السلام ينطلق بهذه الكلمة ويصدر بها دعاءه إلا وهو مستشعر لفضل الله عليه فيما مضى من أمره، متطلع راغب في كرم الله وجوده فيما يستقبل منه.
إجابة الله عز وجل لدعوات موسى عليه السلام: يقول الله عز وجل: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ )) (غافر: 60) ويقول أيضاً: (( وَإذَا سَأََلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذََا دَعَانِ )) [البقرة: 186].
والإجابة تكون من الله عز وجل بمقتضى حكمته وعلمه جل جلاله ؛ فهو سبحانه الذي يعلم حقائق الأمور ومآلاتها ويجيب العبد بما يَصلح له في دنياه وأخراه.
والسياق يدل على أن الله استجاب لموسى عليه السلام بما يبين حكمته جل جلاله، فيلاحظ أنه جاء في الدعاء الأول بعد قوله: (( رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لي )) قوله عز وجل: (( فَغَفَرَ لَهُ )).
وجاء في الدعاء الثاني بعد قوله: (( رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ )) قوله: (( فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ )) [القصص: 25].
وجاء في الدعاء الثالث بعد قوله: (( رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ )) قوله: (( فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا )) [القصص: 25].